النوم في حقل الكرز.. محاولة لاستعادة ذاكرة الأب

 

حمزة عليوي*

أزهر جرجيس كاتب وقاص عراقي، سبق له أن أصدر مجموعتين قصصيتين حظيتا بمتابعة نقدية موسعة. وهو كاتب يميل إلى السخرية والفكاهة. وفي ثقافتنا المكبوتة يميل القراء للكتابات الساخرة. ثيمة السخرية في قصص جرجيس جعلته كاتبا ذا مقبولية واسعة لدى القراء؛ فالسخرية والكوميديا السوداء حاضرة في قصصه، أصعب المواقف وأكثرها جدية تتحول عنده إلى مورد للفكاهة. قصصه تستمد مشروعيتها وقوتها من رغبة الناس ـ القراء بالضحك؛ تنكيلا بحياة تعيسة فرضت عليهم فرضا. لست أدري ماذا كتب النقاد عن قصص جرجيس؛ غير أني أزعم أن الفكاهة المرَّة صيغة سردية متعمَّدة، وهي تنسجم مع تعريف قرأته من قبل عن القصة القصيرة، وصاحبه شبَّه القصة القصيرة بالنكتة، لكن هل تنفع النكتة والكوميديا السوداء في كتابة رواية موسَّعة؟

هيلينا يورستاد، رئيسة تحرير صحيفة واسعة الانتشار في النرويج، التي وصلت دعوتها بالخطأ إلى المترجم، حسمت الأمر، وقالت ضمنا: كلا، لا تنفع السخرية وحدها في كتابة رواية جيدة، ولا بأس بالقليل منها. وفي الواقع هي لم تقل للمترجم سوى جملة واحدة، بعد أن عرفت أن أصله من العراق، قالتها وهي تسلمه نسخة الرواية – المخطوطة: «إنّ حكاية سعيد ينسين هذه، ينبغي أن يقرأها أبناء لغته قبل غيرهم، لأنّ فيها ما فيها». يستجيب المترجم لطلب رئيسة التحرير، ويبدأ بترجمة رواية مواطنه سعيد ينسين إلى العربية، وقد كتبها المؤلف باللغة النرويجية. هذا كل ما نحصل عليه من معلومات عن الرواية وصاحبها، في ما سماه المترجم بـ«الاستهلال». وفي تتمته، بعد أن يفرغ من الترجمة، يقدم لنا المترجم معلومات جديدة، تخص مصير الكاتب، ووصيته لرئيسة التحرير.
هذا أهم ما ذكره المترجم من معلومات تخص الرواية وكاتبها. وهي معلومات شحيحة بلا شك، ولا تساعدنا في الإجابة عن سؤالين مهمين، نعتقد أنهما مفتاح هذه الرواية: لماذا كتب سعيد ينسين روايته باللغة النرويجية؟ والأهم لماذا سعت رئيسة التحرير، صديقته، في ترجمة الرواية إلى لغة الكاتب الأولى «العربية»، لماذا لم تكتفِ بنشرها باللغة النرويجية مثلما كتبها صاحبها؟
يحرص الكاتب على أن يوصي صديقته بكتابة اسمه على شاهدة قبره، ويعلل طلبه: «لئلا يُنسى ويُمحى ذِكرُه، فيموت مرّتين». ومن الواضح أنه كان يفكر أن يُكتب اسمه باللغة النرويجية، وهذا ما توحي به الجملة التي كتبتها «هيلينا» على شاهدة قبره: «هنا ينام سعيد ينسين.. المجد لمن نام في حقل الكرز». فمن يذكره في بلاد الثلوج – النرويج؟ وهذا الأمر ينطبق تماما على رواية «ينسين» وقد كتبها بالنرويجية دون العربية، مع أنه لا يريد أن يُمحى أثره؛ فهل سيحفظ ذكره الغرباء؟! «هيلينا»، المواطنة النرويجية «الغريبة»، تحقق لصديقها رغبته، فتحفظ ذكره وتمنع موته مرتين؛ بأن سعت إلى إعادة الرواية إلى محيطها ومكانها الأول، بل إلى أبناء لغة كاتبها، أو كما قالت للمترجم ليلتها: «أبناء لغته». ثمة، إذن، رغبتان متعارضتان تقولهما حواشي المترجم، في استهلاله وتتمته، تُفيد الأولى بأن كاتب المخطوطة كان راغبا وقاصدا كتابة قصته، وهي بعض قصة بلاده بلغة أجنبية ليقرأها الأجانب بإحدى لغاتهم. ولا ننسى أن المترجم ذاته قد ذكر لـ«هيلينا» أنه ترجم للكاتب قصصا سابقة في جريدة عربية. وهذه إشارة أخرى تُفيد بأن الكاتب تعمَّد الكتابة الأدبية بلغة أجنبية عن بلاده الأولى. وقد مهَّد الكاتب هذا الأمر بأن غيَّر اسم عائلته، فأسقط اسم ابيه «ناصر مردان» من اسمه، واختار اسما جديدا، لا صلة له به من قبل، فصار اسمه «سعيد ينسين». وثمة رغبة مقابلة، وهي رغبة «الأجنبية»، صديقة الكاتب، الطامحة إلى قراءة الرواية بلغة مواطني الكاتب. وليس في حـــــواشي المترجــــم إشارة واحدة تُفيد بأن «هيلينا» نشرت الرواية باللغـــة النرويجية. هذا التأويل يعطي معنى مضافا لوجود المترجم، ويلقي ضوءً كاشفا على طبيعة ووظيفة نظام المخطوطة في الرواية. فالمخطوطة مجاز عن فقدان الذاكرة بفقدان تركة الأب وإلغاء وجوده بعد حرق الأم، في لحظة خوف ورعب، أوراق وصور الأب المعدوم.

لقد استبدلت الأم حكايات الأب بتركته ووجوده، بعد أن أحرقت تراثه كله: صوره وأوراقه وكتبه، حتى ما تبقى من تركته، ساعته اليدوية ودراجته الهوائية، باعتهما لتشري بثمنهما ماكنة خياطة وتعمل عليها.

ولد «سعيد ناصر مردان» يتيما، كان أبوه يعمل معلما، وهو معارض لنظام الحكم وقتها. اعتقله الأمن من بيته بعد ثلاثة أشهر فقط من زواجه. وتولت الأم وحدها تربية «سعيد» وتنشئته، بعد أن غُيب الأب، فلم يطلق سراحه، ولم يُعرف مصيره. لقد ذهب ولم يعد، فيما ظلت الأم تروي لابنها قصتها مع «ناصر مردان»، قصة زواجها منه، وقصة اعتقاله، حياتها الموجزة معه بأشهرها الثلاثة، ما حفظته وسمعته منه. لقد استبدلت الأم حكايات الأب بتركته ووجوده، بعد أن أحرقت تراثه كله: صوره وأوراقه وكتبه، حتى ما تبقى من تركته، ساعته اليدوية ودراجته الهوائية، باعتهما لتشري بثمنهما ماكنة خياطة وتعمل عليها. كان الخوف دافعا رهيبا لمحو أثر الأب، ومسوِّغا لحماية الابن من المصير ذاته. لقد أصبح السرد بديلا عن صورة الأب وقبره وشهادة موته «إعدامه». ومن هذه اللحظة تبدأ مخطوطة الرواية المترجمة، من لحظة فقدان صورة الأب، وهي ذاتها لحظة محو الأثر وإزالة الأصل. ينشأ «سعيد» على أمل أن يعثر يوما على صورة لأبيه. وفي كل مرة يأتيه الأب في لحظة شرود أو تأمل بوجه متلاش، فاقد الملامح، ويسأل سعيد: «أين قبري؟». ولا أمل؛ يلاحق مصير الأب ابنه؛ فينشأ محبا للسخرية وراغبا في الفكاهة تنكيلا بمن أزال ومحا الأب، ويقع في المحظور بنكتة ساخرة من حاكم البلاد يقولها لواشٍ فتصل لجهاز الأمن. يهرب الابن تاركا أمه، ويصل بعد سنوات إلى منفاه في النرويج. وهناك يواصل الأب زياراته المتكررة لابنه في لحظات شروده، وفي كل مرة لا ملامح، لا وجه يُستدل به على صاحبه، ويظل الأب يكرر سؤاله الوحيد: «أين قبري؟»، فلا جواب ولا سؤال غيره، ثمة دائما عتمة تغطي وجه الأب. تأتيه رسالة عاجلة من صديقته «عبير»، الكاتبة المختصَّة بتوثيق مصائر المفقودين. ومرة أخرى لا أمل؛ يذهب إلى منطقة الكفل، حيث مكان المقبرة، يجلس هناك أمام أكوام العظام ويحاول أن يتعرف على أبيه، ولا أمل. يسأل أحدهم، وكان عجوزا يحمل أحد الأكياس المحشوة بعظام قريبة، عن سر حرصه على دفن هذه العظام في قبر بعينه، فيرد عليه العجوز بانكسار: «عندما لا تكون لك شاهدة قبر فإنك تموت مرّتين، مرّة حين تفارق الحياة، ومرّة حين تُنسى ولا يتذكّرك أحد». يستبد به اليأس فيجلس جوار جمجمة ذات حجم متوسط، يعرف من عدد ثقوبها أن صاحبها دفن حيا. يقنع نفسه أن الجمجمة تعود لأبيه، يلتقط لها صورة ويضعها في الكيس مع العظام. يقول لنفسه: «حصلت على أبٍ غير مكتمل النصاب». ولا أمل؛ فلا تركة، ولا صورة للأب، بعد أن تسقط جمجمة الأب أثناء خطف «سعيد» من ميليشيا «دينية» هناك. تستمر العتمة، ويظل الأب بلا صورة، بلا قبر. يدرك «سعيد ينسين» أن عليه أن يواصل مسيرة أمه، أن يخترع صورة أبيه بالحكايات، أن يؤسس لأبيه تركة بالسرد. يكتب قصته، يكتب حيرته وضياعه، يسرد فقدان ذاكرته، منتقما بالسرد ممّن أزال وجوده، ممّن أزال ومحا أباه.
يقتفي «سعيد ينسين» أثر أمه، ويلتزم بوصاياها؛ فيكتب قصته بلغة أجنبية، ويكتب وصيته، فيحفظ للعجوز عظته: «إن الإنسان يموت مرتين عندما لا تكون له شاهدة قبر، مرة حين يفارق الحياة، ومرة حين يُنسى ولا يتذكره أحد». لكن «هيلينا» الشجاعة، هيلينا التي لم تعش في بلاد الخوف، لم تسمع وصايا الأم، ولا تفهم ما معــــنى أن يفقــــد الإنسان حياته بسبب نكتة تافهة، هيلينا هذه تقرر أن تعيد القصة إلى لغتها، إلى مواطني الكاتب؛ «لأن فيها ما فيها».

٭ ناقد وأكاديمي عراقي

تعليقات

المشاركات الشائعة