النوم في حقل الكرز للعراقي أزهر جرجيس .. رحلة هذيانية يقودها شبح بلا وجه
عمار المأمون
تُشكل فرضية كتاب ضائع تم إيجاده أو مخطوط مفقود اكتشف بعد وفاة صاحبه أولى أشكال الرواية، كحالة دون كيخوتة التي حسب فرضيّة الرواية هي نص "مترجم" عن مخطوط ألّفه سيدي حامد بن الجيلي، وجده سيرفانتس وأخبرنا عنه. تفتح الفرضيّة السابقة (المصادفة، المخطوط الضائع، تعدد المؤلفين) فعل القراءة على عدد من مستويات، فهناك حكاية عن الكتاب، وحكاية الكتاب، وهناك حكاية المؤلف وهناك المؤلف داخل العمل، وغيرها من الشعريات التي تتداخل وتخاطب عبرها الرواية ذاتها كفنّ يعيد النظر بنفسه وآلياته.
يتبنى الكاتب العراقي أزهر جرجيس الفرضيّة السابقة في روايته "النوم في حقل الكرز" الصادرة عن دار الرافدين عام 2019، فالرواية التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربيّة) للعام 2020، تحكي لنا في استهلالها، عن خطأ قام به ساعي البريد، أدّى إلى مُصادفةٍ اكتشف عبرها أحد المترجمين العراقيين في النرويج، المخطوط الأخير للكتاب العراقي من أصل نرويجي "سعيد ينسن"، الذي سبق أن ظهرت أعماله في عدد من الصحف النرويجيّة، أما المخطوط الأخير، فلم يرى النور بعد، وما نقرأه هو ترجمة هذا المخطوط، الذي نكتشف لاحقاً أن كاتبه ينسن وجد ميتاً أسفل شرفة منزله التي قفز منها.
نرى أنفسنا في الرواية أمام ثلاثة مؤلفين، جرجيس الذي يظهر اسمه على الغلاف، والمترجم الذي ينقل النص من النرويجيّة إلى العربيّة، وسعيد ينسن، الكاتب المعروف نسبياًن والذي دوّن ما يشبه المذكرات ضمن المخطوط، تلك التي تتحرك بين الحكاية الشخصيّة، والهلوسة، والحدث التاريخيّ.
يتركنا تعدد في المؤلفين أمام أشباحهم التي تطفوا أمامنا حين نقرأ، لكن هناك أيضاً، شبح والد ينسن، ذاك الذي قضى دون أن يعرفه ينسن، وبقي يلاحقه و يزور أحلامه سائلاً إيّاه "أين قبريّ ؟"، السؤال الذي يهدد يقظة ينسن ونومه، والمثير الاهتمام أن هذا الشبح، يختلف عن طيف والد هاملت، الذي يظهر مرات معدودة فقط، فهو شبح بلا وجه، ما يشكل هاجساً لينسن الذي يسعى لالتقاط صورة لأبيه حتى لو كان عظاماً ورميماً. هذا السعي المستحيل وتداخل الحلم واليقظة، نراه في شكل الرواية ذاتها، فالمقاطع متفاوتة الطول التي تشكل المخطوط، والتي تتداخل فيها الأزمان والحكايات بين الصحو والهلس، أشبه برحلة مرعبة في غابة جهنميّة محفوفة بالموت والأجساد المعذبة، لتبدو المقاطع أشبه بومضات من الوعي الذي تختلف في طولها قبل الإغماء.
يدفعنا اللبس بين اليقظة والوهم للتشكيك فيما نقرأه، خصوصاً أن في المخطوط ما يبدو (واقعياً) ليليه فوراً ما ينتمي إلى الفانتازيا والخيال العلمي الذي تدور أحداثها في عقل ينسن فقط، هذا اللبس سببه الصداع الفتّاك الذي يعتلي الكاتب مراراً، خصوصاً بعد وفاة زوجته النرويجيّة، ما اضطره لزيارة الطبيب الذي وصف له الكابتيكون، المخدر الشهير الذي يسبب الهلسات، ويضعف الروابط العصبيّة بين مكونات الوعي والذاكرة، ما يتركنا أمام سؤالين متناقضين، هل فعلاً عاد ينسن إلى العراق بحثاً عن جثة والده؟ أم أن ما نقرأه هو مجرد هلوساته على الورق بسبب الكابتيكون وخسارة زوجته؟.
أحلام لزجة
إن افترضنا أننا نتحرك في حلم يعبر فيه ينسن الزمن، ويتخيل عراقاً مزدهراً ، أو يتخيل موته مراراً، أو حتى شبح والده، فجرجيس في هذه الرواية يتلاعب بواحدة من قوانين الحلم الهامة، ألا وهي الماء، بوصفه سائل الزمن والمخيّلة وإكسير الأحلام، إذ نكتشف في الرواية أن البلاد التي تقطع الرؤوس فيها لأسباب طائفية، وتدفن الجثث تحت أرضها أكواماً، تتحرك أحلام ساكنيها في الدماء، وعوضاً عن السباحة في الماء برقة كما في رواية "قانون الحالم" لدانيال بيناك، يحبر ينسن الذي يكتب بصوته في سائل لزج، مليء بالذكريات والألم، لا يمكن له أن يكون نهراً أو بحراً، بل هو لطخات وبقع مختلفة على الأسمنت، تسكنها أشباح من قضوا، الذين يهيم بينهم ينسن، دون أن يعرف وجوههم، بل يختبر موت وألم كل واحد فيهم على حدى.
لا فكاك من رحلة الدماء والأشلاء سواء في الواقع أو المخيلة، إذ نقرأ كيف أن ينسن، تمكن من مغادرة العراق بصعوبة أدمت قدميه، واستقر في النرويج التي جمّدت قدميه، لكنه وقع في الحب، ومارس الكتابة التي يحب، مع ذلك أشباح الدم بقيت حاضرة، تظهر أمامه و تناديه للعودة، الأمر أشبه بلوثة في العقل لا مناص من أن تلتهم صاحبها، حتى لو كان يهلوس في بيته دون أن يرى أحد، ما يجعل الخوض في الذاكرة الكابوسية والساخرة وما تحويها من مفارقات أمر لا يمكن حصره، لكن هنا يمكن النظر إلى ينسن كمثال على الجسد المُعذب- الغروتيسك، الذي تعرض لعنف لا يغتفر ولا ينسى ولا يصفح عنه، هذا العنف يخلق عطباً لا يصلّح، والحل الوحيد هو ترويض ذاكرة هذا الجسد، لأن انفلاتها يُهدد ما تبقى من حياة صاحبها.
تحوي الرواية مفارقة ساخرة تتعلق بالهجرة والعلاقة بين "الضيوف" و"المواطنين"، فينسن يكتب في صحيفة نرويجية مغمورة عن مآسيه بصورة ساخرة، يُنتج قصص قصيرة تذكر في الاستهلال ونقرأ عنها في المتن بوصفه أحداثاً حقيقية/ هذيانيّة شهدها ينسن، لكن هذه القصص موجهة لجمهور نرويجي، يرى ينسن أنه يضحكهم على حساب مأساته الشخصية ومأساة شعبه.
نعود للعنوان "النوم في حقل الكرز"، تلك العبارة التي تتكرر في الرواية بوصفها وصية جاكوب جوندال، جار ينسن، الذي أراد أن يدفن في حقل كرز اشتراه، لإيمانه أن أرواح الموتى تتشابه مع المكان الذي دفنت فيه، تلك الراحة الأبديّة يسعى لها ينسن، بالرغم من أنها تتعارض مع رغبة والده الشبح، ذاك الذي من المفترض أنه موجود في مقبرة جماعية في العراق، والذي يقود ينسن في رحلة متخيلة لإيجاد رفاته، أو بصورة أدق، أيجاد أي رفاة، فكلها يمكن أن تكون صالحة لتكون أباً لينسن. لكن، حتى الموت لا راحة فيه، وهنا يظهر عمق الجريمة والعنف الذي يشهده العراق، هو يستهدف إنسانيّة الإنسان، فمن هو بدون قبر يتعذب، ومن حوله يتعذبون أيضاً، وهنا يظهر سؤال "أين قبري؟" الذي يطرحه الشبح كتشكيك في هويته، إذ يمكن القول أن ينسن يرى أشباح لـ"كل" الضحايا، فمن لا وجه له يمكن أن يكون الجميع، كل من فقدوا واعتقلوا واختفوا لا قبور لهم، أي هناك دوماً من يبحث في مخيلته وفي التراب عن رفات لحبيب أو لقريب، بالتالي "لا ينام"، يبق أبداً هائماً، وحياً في رؤوس من كانوا حوله، أولئك الذين لا عزاء لهم، سوى ترويض الأشباح ومسائلة عدالتها، لكن يبق هناك سؤال شعريّ، دُفن ينسن في حقل الكرز حسب وصيته، فيا ترى، هل ستلاحق الأشباح هذه الأرض وتعديها، أي تجعلها مسكناً لها؟، أم العكس ستتحقق الأسطورة، ويصبح ينسن وأشباحه جزء من الحقل؟
تعليقات
إرسال تعليق